فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

سورة القيامة:
قوله تعالى: {لا أقسم}
اتفقوا على أن المعنى {أقسم} واختلفوا في (لا) فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: {لئلا يعلم أهلُ الكتاب} [الحديد: 29] وجعلها بعضهم ردا على منكري البعث.
ويدل عليه أنه {أقسم} على كون البعث.
قال ابن قتيبة: زيدت (لا) على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك، ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد.
وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح {لأقسم} بغير ألف بعد اللام، فجعلت لاما دخلت على {أقسم}، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، قال الزجاج: من قرأ {لأقسم} فاللام لام القسم والتوكيد.
وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأضربنّ زيدا.
ولا يجوز: لأضْرِبُ زيدا.
قوله تعالى: {ولا أُقْسِمُ بالنّفْس اللّوامة} قال الحسن: أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقال قتادة: حكمها حكم الأولى.
وفي (النفس اللّوامة) ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس.
فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم.
والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن.
قال: لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال.
والثالث: أنها جميع النفوس.
قال الفراء: ليس من نفس برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا.
قال: هلا زِدْت.
وإن كانت عملت سوءا قال: ليتني لم أفعل.
قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} المراد بالإنسان هاهنا: الكافر.
وقال ابن عباس: يريد أبا جهل.
وقال مقاتل: عدي بن ربيعة، وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «نعم»، فاستهزأ مِنْه فنزلت هذه الآية.
قال ابن الأنباري: وجواب القسم محذوف، كأنه: لتُبْعثُنّ، لتُحاسبُنّ، فدل قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} على الجواب، فحذف.
قوله تعالى: {بلى} وقف حسن.
ثم يُبتدأ {قادرين} على معنى: بلى نجمعها قادرين.
ويصلح نصب {قادرين} على التكرير بل فلْيحسبنا قادرين {على أن نُسوِيّ بنانهُ} وفيه قولان.
أحدهما: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخُفّ البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور.
والثاني: نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
وقد بينا معنى البنان في [الأنفال: 12].
قوله تعالى: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} فيه قولان.
أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس.
والثاني: يقدّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير.
فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم.
وعلى الأول: الكافر.
قوله تعالى: {يسأل أيان يوم القيامة} أي: متى هو؟ تكذيبا به، وهذا هو الكافر {فإذا برق البصر} قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم {برق} بفتح الراء، والباقون بكسرها.
قال الفراء: العرب تقول: برق البصر يبرق، وبرق يبرق، إذا رأى هولا يفزع منه، و{برق} أكثر وأجود قال الشاعر:
فنفْسك فانْع ولا تنْعني ** وداوِ الكُلُوم ولا تبرق

بالفتح.
يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك.
قال المفسرون: يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يطْرِفُ لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا، وقال مجاهد: برق البصر عند الموت.
قوله تعالى: {وخسف القمر} قال أبو عبيدة: كسف وخسف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوؤه.
قوله تعالى: {وجُمِع الشّمسُ والقمر} إنما قال: {جمع} لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة.
وقال الفراء: إنما لم يقل: جُمِعتْ، لأن المعنى: جمع بينهما.
وفي معنى الآية قولان.
أحدهما: جمع بين ذاتيْهما.
وقال ابن مسعود: جمعا كالبعيرين القرينين.
وقال عطاء بن يسار: يُجْمعان ثم يُقْذفان في البحر.
وقيل: يُقْذفان في النار.
وقيل: يجمعان، فيطلعان من المغرب.
والثاني: جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج.
قوله تعالى: {يقول الإنسان} يعني: المكذِّب بيوم القيامة {أين المفر} قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: بكسر الفاء قال الزجاج: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر، فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلسا بالفتح، يعني: جلوسا.
فإذا قلت: مجلِسا بالكسر، فأنت تريد المكان.
قوله تعالى: {كلا لا وزر} قال ابن قتيبة: لا ملجأ.
وأصل الوزر: الجبل.
الذي يمتنع فيه {إِلى ربك يومئذ المستقر} أي: المنتهى والمرجع.
{يُنبّأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر} فيه ستة أقوال.
أحدها: بما قدّم قبل موته، وما سنّ من شيء فعُمِل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس.
والثاني: {يُنبّأُ} بأوّل عمله وآخره، قاله مجاهد.
والثالث: {بما قدّم} من الشّرِّ {وأخّر} من الخير، قاله عكرمة.
والرابع: {بما قدّم} من فرض، {وأخّر} من فرض، قاله الضحاك.
والخامس: {بما قدّم} من معصية، {وأخّر} من طاعة.
والسادس: {بما قدّم} من أمواله، وما خلّف للورثة، قاله زيد بن أسلم.
قوله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصِيرة} قال الفراء: المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصِيرة، أي: رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي: الجوارح.
قال ابن قتيبة: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه.
وقال أبو عبيدة: جاءت الهاء في {بصِيرة} في صفة الذكر، كما جاءت في رجل (راوية)، و(طاغية)، وعلاّمة.
قوله تعالى: {ولو ألقى معاذيره} في المعاذير قولان.
أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذّب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر.
والمعاذير: الستور.
فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، والزجاج، فيخرج في معنى {ألقى} قولان.
أحدهما: قال، ومنه {فألْقوا إليهم القول} [النحل: 36]، وهذا على القول الأول:
والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني.
قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حِفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يُحرِّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفظه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعناها: لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه {إِن علينا جمعه وقرآنه} قال ابن قتيبة: أي: ضمّه وجمعه في صدرك {فإذا قرآناه} أي: جمعناه {فاتبع قرآنه} أي: جمعه.
قال المفسرون: يعني: اقرأ إذا فرغ جبريل من قراءته.
قال ابن عباس: فاتِّبع قرآنه، أي: اعمل به.
وقال قتادة: فاتبع حلاله وحرامه {ثم إنّ علينا بيانه} فيه أربعة أقوال.
أحدها: نبيِّنه بلسانك، فتقرؤه كما أقرأك جبريل.
وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده الله، قاله ابن عباس.
والثاني: إِن علينا أن نجزي به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد، قاله الحسن.
والثالث: إِن علينا بيان ما فيه من الأحكام، والحلال، والحرام، قاله قتادة.
والرابع: علينا أن ننزِّله قرآنا عربيا، فيه بيان للناس، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {كلا} قال عطاء: أي: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، وقال ابن جرير: المعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تُبْعثُون، ولكن دعاكم إلى قِيلِ ذلك محبّتُكم للعاجلة.
قوله تعالى: {بل تحبون العاجلة} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {بل يحبون العاجلة ويذرون} بالياء فيهما.
وقرأ الباقون بالتاء فيهما.
والمراد: كفار مكة، يحبونها ويعملون لها {ويذرون الآخرة} أي: يتركون العمل لها إيثارا للدنيا عليها.
قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة} أي: مشرقة بالنعيم {إلى ربها ناظرة} روى عطاء عن ابن عباس قال: إلى الله ناظرة.
قال الحسن: حق لها أن تنْضر وهي تنظر إلى الخالق، وهذا مذهب عكرمة.
ورؤية الله عز وجل حق لا شك فيها.
والأحاديث فيها صحاح، قد ذكرتُ جملة منها في (المغني) و(الحدائق).
قوله تعالى: {ووجوه يومئذ باسرة} قال ابن قتيبة: أي: عابسة مقطِّبة.
قوله تعالى: {تظن} قال الفراء: أي: تعلم، و(الفاقرة) الداهية.
قال ابن قتيبة: إنه من فقارة الظهر، كأنها تكسره، يقال فقرْتُ الرجل: إذا كسرت فقاره، كما يقال: رأسْتُه: إذا ضربت رأْسه.
وبطنْتُه: إذا ضربْت بطْنه.
قال ابن زيد: والفاقرة: دخول النار.
قال ابن السائب: هي أن تُحْجب عن ربها، فلا تنظر إليه.
قوله تعالى: {كلا} قال الزجاج: {كلا} ردع وتنبيه.
المعنى: ارتدِعوا عما يؤدِّي إلى العذاب.
وقال غيره: معنى {كلا}: لا يُؤْمِنُ الكافر بهذا.
قوله تعالى: {إذا بلغت} يعني: النفس.
وهذه كناية عن غير مذكور.
و{التراقي} العظام المكتنفة لنُقْرة النّحر عن يمين وشمال.
وواحدة التراقي: ترْقوة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، {وقيل منْ راق} فيه قولان.
أحدهما: أنه قول الملائكة بعضهم لبعض: من يرقى روحه، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، ومقاتل.
والثاني: أنه قول أهله: هل مِنْ راقٍ يرْقيه بالرُّقى؟ وهو مروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو قلابة، وقتادة، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج.
قوله تعالى: {وظن} أي: أيقن الذي بلغت روحه التراقي {أنه الفِراق} للدنيا {والتفّت الساق بالساق} فيه خمسة أقوال.
أحدها: أمر الدنيا بأمر الآخرة، رواه الوالبي عن ابن عباس: وبه قال مقاتل.
والثاني: اجتمع فيه الحياة والموت، قاله الحسن، وعن مجاهد كالقولين.
والثالث: التفت ساقاه في الكفن، قاله سعيد بن المسيب.
والرابع: التفت ساقاه عند الموت، قاله الشعبي.
والخامس: الشدة بالشدة، قاله قتادة.
قال الزجاج: آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة.
قوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المساق} أي: إلى الله المنتهى {فلا صدّق ولا صلّى} قال أبو عبيدة: (لا) هاهنا في موضع (لم).
قال المفسرون: هو أبو جهل {ولكن كذّب وتولّى} عن الإيمان {ثم ذهب إِلى أهله يتمطّى} أي: رجع إليهم يتبختر ويختال.
قال الفراء {يتمطّى} أي يتبختر، لأن الظهر هو المطا، فيلوي ظهره متبخترا.
وقال ابن قتيبة: أصله يتمطط، فقلبت الطاء فيه ياء، كما قيل: يتظنّى، وأصله: يتظنن، ومنه المشية المُطيْطاء.
وأصل الطاء في هذا كله دال.
إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر.
يقال: مططتُ ومددتُ بمعنى.
قوله تعالى: {أولى لك فأولى} قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد.
وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان: إِذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وليك المكروه يا أبا جهل.
قوله تعالى: {أيحسب الإنسان} يعني: أبا جهل {أن يُتْرك سُدى} قال ابن قتيبة: أي: يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب، يقال: أسديت الشيء، أي: أهملته.
ثم دل على البعث بقوله تعالى: {ألم يك نطفة من منِيٍّ يُمْنى} قرأ أبن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي وأبو بكر عن عاصم {تُمْنى} بالتاء.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، ويعقوب {يُمْنى} بالياء.
وعن أبي عمرو كالقراءتين.
وقد شرحنا هذا في [النجم: 24] {ثم كان علقة} بعد النطفة {فخلق} فيه الروح، وسوّى خلقه {فجعل منه} أي: خلق من مائه أولادا ذكورا وإناثا {أليس ذلك} الذي فعل هذا {بقادرٍ} وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري {يقدر} {على أن يحيي الموتى} وهذا تقرير لهم، أي: إن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة.
قال ابن عباس: إذا قرأ أحدكم هذه الآية، فليقل: اللهم بلى. اهـ.